09‏/08‏/2008

عن العذريين 2




وَما هُوَ إِلّا أَن أَراها فُجاءَةً فَأَبهَتُ حَتّى ما أَكادُ أُجيبُ


هكذا يصف قيس بن ذريح حاله إذا ما رأى لبنى أمامه , لبنى الحب و الأهل و السكن و عمر من الشعر و الحب الخالص


إنه قيس ابن ذريح أرق الشعراء العذريين و أكثرهم اختلافا و تمايزا على أكثر من وجه


نعود أولا للبدايات التقليدية من عرض لمن هو قيس و من لبنى و كيف تقابلا


هو قيس ابن سنة من قبيلة خزاعة و هي لبنى بنت الحباب من بني كعب ككل قصص العذريين قابلها صدفة كان الجو شديد الحرارة فلجأ قيس لبيتها يطلب ماء ً فقابلها بقامتها المديدة و قسماتها العذبة فوقع بقلبه شئ شرب فهم بالنهوض فعرضت عليه أن يبقى قليلا فقبل و جلس حتى أتى أبوها فرحب به و أولمه و جالسه حتى مضى مع نهاية اليوم


بدأ قيس يتعرف على حب لبنى و طيفها المصاحبه أينما راح محاولا كتمان هذا الحب لكنه بعد فترة استسلم للشعر ينهل من حبه للبنى


لَقَد لاقَيتُ مِن كَلَفي بِلُبنى بَلاءَ ما أُسيغَ بِهِ الشَرابا


إِذا نادى المُنادي بِاِسمِ لُبنى عَيَيتُ فَما أَطيقُ لَهُ جَوابا


أو قوله


ألاَ لَيْتَ لُبْنَى في خَلاءٍ تَزُورُني


فأشكُو إليها لوعتِي ثُمَّ تَرْجـعُ


صَحَا كُلُّ ذي لُبٍّ وَكُلُّ


متيم ٌو قلبِي بِلُبْنَى ما حَيِيتُ مُـرَوَّعُ


فَيَا مَنْ لِقَلْبٍ ما يُفِيقُ مِنَ الهَوَى


وَيَا مَنْ لِعَيْنٍ بِالصَّبَابة ِتَدمـعُ


أو قوله


وإنّي لأهوى النَّوْمَ في غَيْرِ حِينِهِ


لَعَلَّ لِقَـاءً فـي المَنَـامِ يَكُـونُ


تُحَدِّثُني الأحـلامُ أنِّـي أراكـم


فيا لَيْتَ أحْـلاَمَ المَنَـامِ يَقِيـنُ


فلما استبد به الشوق عاد إليها ثانية و انتهز فرصة ليخلو بها فباح لها بكل ما يكنه فوجد لديه مثله و أعظم فذهب مباشرة إلى والده يخبره بأمرهما و يطلب منه أن يخطبها له يرفض ذريح طلب ابنه و يعرض عليه أن يتزوج إحدى بنات عمه فغضب و شكى لأمه فوجد ذات الأمر فراح يشكو للحسين ابن علي - رضي الله عنهما - و هو أخوه في الرضاعة فقال له أنا أكفيك و هو ما قد فذهبا إلى والد لبنى فلما رآه جرى إليه، وأعظمه، وقال: يا ابن رسول الله، ما جاء بك إلي ؟ ألا بعثت إلي فآتيك ؟ قال: قد جئتك خاطباً ابنتك لبنى، لقيس بن ذريح، وقد عرفت مكانه مني. فقال: يا ابن بنت رسول الله، ما كنت لأعصى لك أمراً، وما بنا عن الفتى رغبة، ولكن أحب الأمرين إلينا، أن يخطبها ذريح علينا، وأن يكون ذلك عن أمره، فإنا نخاف أن يسمع أبوه بهذا، فيكون عاراً ومسبة علينا. فذهب الحسين - كرم الله وجهه - إلى ذريح، وقومه مجتمعون، فقاموا إليه كحال الحباب والد لبنى . فقال: يا ذريح، أقسمت عليك بحقي، إلا خطبت لبنى لابنك قيس. فقال: السمع والطاعة لأمرك .


و تزوج قيس دون مباركة من أبيه و لكن وجود لبنى هون عليه الكثير و عاشا كما يليق بعاشقين محبين عشر سنوات فلم تنجب لبنى فراح أبوه و أمه يلحان عليه في تطليقها و الزواج من أخرى فرفض أيما رفض فأصر أبوه بشدة فكان بميلاد أول خيط من خيوط الصبح يقف أمام بيت قيس في منطقة لا يقيه فيها من حرارة الشمس شيئ فيظل هكذا حتى الغروب حتى استبد به الوهن و قيس يقف بجانبه و يظلله بعباءته و يتحمل عنه قسوة الشمس نهارا و يتبادل الدمع و لبنى ليلا فينزف الشعر و هي تضمه إلى صدرها لعله يهدأ بالا وتقول له: يا قيس، لا تطع أباك، فتهلك، وتهلكني معك فيقول لها: ما كنت لأطيع أحداً فيك أبداً


لَقَدْ نادَى الغرابُ بِبَيْـنِ ُبْنَـى


فَطَارَ القلبُ مِنْ حذر الغـرابِ


وَقَالَ: غـداً تَبَاعَـدُ دَارُ لُبْنَـى


وتنـأَى بَعْـدَ وُدٍّ وأقـتـرابِ


فقلتُ : تعِستَ ويحكَ مِنْ غرابٍ


وَكَانَ الدَّهْرَ سَعْيُكَ فِـي تَبَـابِ


لَقَدْ أُوْلِعْـتَ لا لاقَيْـتَ خَيْـراً


بِتَفْرِيقِ المُحِبِّ عَـنِ الحُبَـابِ


يرضخ قيس لإرادة و الديه فيطلق لبنى بعد سنة من المشقة و سرعان ما يحس بعظم جريمته فيبيكها و يكتب أروع أبياته كقوله :


يَقُولُونَ: لُبْنَى فِتْنَـة ٌ كُنْـتَ قَبْلَهـا


بِخيرٍ فـلا تَنـدَمْ عَليهـا وَطلِّـقِ


فَطَاوَعْتُ أعْدَائِي وَعَاصَيْتُ نَاصِحِي


وأقْرَرْتُ عَيْنَ الشَّامِـتِ المُتَخَلِّـقِ


وَدِدْتُ وَبَيـتِ اللهِ أني عصيتهم


وَحُمِّلتُ في رِضوانِها كُـلَّ مُوبِـقِ


وَكُلِّفْتُ خَوْضَ البَحْرِ والبَحْرُ زَاخِرٌ


أبيتُ علـى أثْبَـاجِ مَـوْجٍ مُغَـرِّقِ


كَأَنِّي أرَى الناسَ المُحِبِّيـنَ بَعْدَهـا


عُصَارَة َ مَـاءِ الحَنْظَـلِ المُتَغَلِّـقِ


فَتُنْكِرُ عَيْنِـي بَعْدَهـا كُـلَّ مَنْظَـرٍ


وَيَكرَهُ سَمعي بَعدَهـا كُـلَّ مَنطِـقِ


و قوله


أَرَى بَيْتَ لُبْنَى أصْبَحَ اليَوْمَ يُهْجَـرُ


وهجرانُ لُبْنَى - يا لكَ الخيرُ- منكرُ


أتبكِي عَلَى لُبْنَـى وأنـتَ تركتَهـا؟


وكُنْتَ عليهَا بالملاَ أنـتَ أقـدرُ


فإنْ تَكُـنِ الدُّنْيَـا بِلُبْنَـى تَقَلَّبَـتْ


علـيّ فلِلدُّنْيَـا بُطُـونٌ وأظْـهُـرُ


لَقَدْ كَان فيهـا للأَمَانَـة ِ مَوْضِـعٌ


وللكـفّ مرتـادٌ وللعيـنِ منظـرُ


وَلِلْحَائِـمِ العَطْشـانِ رِيٌّ بِرِيقِهـا


وللمرِح المختـالِ خمـرٌ ومُسْكـرُ


كأَنِّيَ في أُرْجُوحَـة ٍ بَيْـنَ أحْبُـلٍ


إذا ذُكْرَة ٌ مِنْهَا عَلَى القَلْبِ تَخْطُـرُ


فلما انقضت أيام عدتها بأدت تجهز للرحيل فطلب الدخول إليها فرفض أهلها ففقد وعيه و لما افاق أخذ يهذي و يقول


وإني لمفن دمع عيني بالبكى حذار الذي قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة فراق حبيب لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي بكفيك إلا أن ما حان حائن


فتبع قافلتها يشيعها و يشيع معه حبه حتى غابت عن عينه فراح يقبل الأرض قائلا


أمسُّ ترابَ أرضِكِ يا لُبَيْنَى


وَلَوْلاَ أَنْتِ لم أَمْسَسْ تُرَابَا


وَمَا أَحْبَبْتُ أَرْضَكُـمُ وَلكِـنْ


أقَبِّلُ إثْرَ مَنْ وَطِىء التُّرَابَـا


مرض قيس و اشتد مرضه و راح ينزف الأشعار ملتحفا بدمعه و تطور الأمر لاختلال في عقله فبعث له والده بطبيب


فقال له الطبيب مذ كم هذه العلة بك ومذ كم وجدت بهذه المرأة ما وجدت فقال:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا وليس إذا متنا بمنفصم العقد
فزاد كما زدنا وأصبح نامياً وليس إذا متنا بمنصم المهد
ولكنه باق على كل حادث وزائرتي في ظلمة القبر واللحد
فقال إنما يسليك عنها تذكر ما فيها من المساوي والمعايب وما تعافه النفس فقال:
إذا عبتها شبهتها البدر طالعاً وحسبك من عيب لها شبه البدر
لقد فضلت لبنى على الناس مثل ما على ألف شهر فضلت ليلة القدر
إذا ما شئت شبراً من الأرض أرجفت من البهر حتى ما تزيد على شبر
لها كفل يرتج منها إذا مشت ومتن كغصن البان منضمر الخصر
وأن أباه دخل وهو يخاطب الطبيب بذلك فجعل يؤنبه ويلومه، فلما لم يفد ذلك عرض عليه التزويج وأنشد:
لقد خفت أن لا تقنع النفس بعدها بشيء من الدنيا وإن كان مقنعا
وازجر عنها النفس إن حيل دونها وتأبى إليها النفس إلا تطلع


و كان من والده أن ترك يسرح في الربوع لعله يرى من تنسيه لبنى و إذا هو سائر في السوق رأى بنتا ً مبرقعة فأعجبته فسأل عن اسمها قيل له لبنى فأغشي عليه و لما أفاق عرض عليه أخوها أن يمكث عنده مدة و عرض عليه أن يتزوجها و ألح حتى قبل و ماهي إلا أيام حتى مل الحياة فذهب لصديق له من المدينة فأخبره أن لبنى عرفت أمر زواجه فغضبت و أحست بغدره فقبلت الزواج من غيره


و اشتكاه أبوها للخليفة فأحل دمه فراح قيس ينشد


فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عينيّ من دائم البكا ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري
إلى اللّه أشكو ما ألاقي من الهوى ومن كرب تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشا وليل طويل الحزن غير قصير
سأبكي على نفسي بعين غزيرة بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعاً قبل أن يظهر النوى يا نعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا بطون الهوى مقلوبة بظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا ولكنما الدنيا متاع غرور


تزوجت لبنى يقال لترد على زواجه من أخرى و يقال لتمنعه عنها فتحفظه من حل دمه المهم أنها تزوجت و راحت الغواني تنشدها
لبينى زوجها أصبح لا حر يوازيه
له فضل على الناس وقد باتت تناجيه
وقيس ميت حقاً صريع في بواكيه
فلا يبعده اللّه وبعداً لنواعيه

و أخذ المرض يشتد على قيس و هو لا يرى لبنى إلا فيما ندر فلما علمت بمرضه قالت هو يتمارض فلما وصله هذا قال


تكذبني بالودّ لبنى وليتها تكلف مني مثله فتذوق
ولو تعلمين الغيب أيقنت أنني لكم والهدايا المشعرات صديق
تتوق إليك النفس ثم أردّها حياء ومثلي بالحياء حقيق
إذ ود سوام النفس عنك وماله على أحد إلا عليك طريق
شهدت على نفسي بأنك غادة رداح وإن الوجه منك عتيق
وأنك لا تجزين مني صحابة ولا أنا للهجران منك أطيق
وإنك قسمت الفؤاد فنصفه رهين ونصف في الحبال وثيق
كأن الهوى بين الحيازيم والحشا وبين التراقي واللهاة حريق
فإن كنت لما تعلمي العلم فاسألي وبعض لبعض في الفعال يفوق
سلى هل قلاني من خليل صحبته وهل ذمّ رحلي في الرفاق رفيق
وهل يجتوي القوم الركام صحابتي إذا اغبرّ محشيّ المعجاج عميق
واكتم أسرار الهوى فأميتها إذا باح مزاح بهن يروق
هل الصبر إلا أن أصدّ فلا أرى بأرضك إلا أن يكون طريق


لما علمت لبنى بشدة مرضه أتته متخفية ليلا و أعملته أنها على ما كان بينهما و أنها كارهة لزوجها فاستعان بالحسن و الحسين - كرم الله وجهيهما - لتطليقها فطلقها زوجها فلا يشاء القدر لهما إلا التفرق إذ ماتت في أيام العدة و يقال أن قيسا لما علم الخبر خرج إلى قبرها فأنشد


مات لبينى فموتها موتي هل ينفعن حسرة على الفوت
إني سأبكي بكاء مكتئب قضى حياة وجداً على ميت


و أغشي عليه و مات بعدها بثلاث فدفن جوارها و بقت قصتهما شاهدة على حب تخطى بصدقه كل الحدود

هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

أشعر أن ما أقرؤه هنا لا أقراؤه إلا هنا .. و لم و لن أقرؤه إلا هنا ..

لك طابع خاص .. و امدونتك نفس الطابع ..

ياسمين

محمد مصطفى يقول...

ازيك يا ياسمين
تحياتي لإطرائك الجميل و أتمنى أن أستحقه